الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقد تأول قوم ـ من المنتسبين إلى السنة والحديث ـ حديث النزول ـ وما كان نحوه من النصوص التي فيها فعل الرب اللازم؛ كالإتيان والمجيء, والهبوط ونحو ذلك, ونقلوا في ذلك قولا لمالك، ولأحمد بن حنبل حتى ذكر المتأخرون من أصحاب أحمد ـ كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره ـ عن أحمد في تأويل هذا الباب روايتين، بخلاف غير هذا الباب, فإنه لم ينقل عنه في تأويله نزاعًا. وطرد ابن عقيل الروايتين في [التأويل] في غير هذه الصفة، وهو تارة يوجب التأويل، وتارة يحرمه، وتارة يسوغه. والتأويل عنده تارة للصفات الخبرية مطلقًا ويسميها الإضافات ـ لا الصفات ـ موافقة لمن أخذ ذلك عنه من المعتزلة, كأبي علي بن الوليد, وأبي القاسم بن التَّبَّان ـ وكانا من أصحاب أبي الحسين البصري ـ وأبو الفرج بن الجوزي مع ابن عقيل على ذلك في بعض كتبه، مثل [كف التشبيه بكف التنزيه]، ويخالفه في بعض كتبه. /والأكثرون من أصحاب أحمد لم يثبتوا عنه نزاعًا في التأويل, لا في هذه الصفات ولا في غيرها. وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية، أن أحمد لم يتأول إلا [ثلاثة أشياء]: (الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض), و(قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن)، و(إني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن): فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد, ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه. وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف،لا علمه بما قال، و لا صدقه فيما قال. وأيضًا، وقع النزاع بين أصحابه: هل اختلف اجتهاده في تأويل المجيء والإتيان، والنزول ونحو ذلك؟ لأن حنبلًا نقل عنه في [المحنة] أنهم لما احتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجيء البقرة، وآل عمران، كأنهما غَمَامَتَان، أو غَيَايَتَان، أو فِرْقَان من طَيْرٍ صَوَافَّ) [والغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها. وفِرْقَان: أي قطعتان. وصواف: أي باسطات أجنحتها في الطيران]. ونحو ذلك من الحديث الذي فيه إتيان القرآن ومجيئه. وقالوا له: لا يوصف بالإتيان والمجيء إلا مخلوق؛ فعارضهم أحمد بقوله: وأحمد وغيره من أئمة السنة ـ فسروا هذا الحديث بأن المراد به مجيء ثواب البقرة وآل عمران، كما ذكر مثل ذلك من مجيء الأعمال في القبر وفي القيامة, والمراد منه ثواب الأعمال. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا البقرة وآل عمران, فإنهما يجيئان يوم القيامة كأنهما غَيَايَتان، أو غَمامتان، أو فِرْقان من طير صَوَافَّ, يحاجان/ عن أصحابهما) وهذا الحديث في الصحيح: فلما أمر بقراءتهما وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ، علم أنه أراد بذلك قراءة القارئ لهما وهو عمله، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة لهما في الصورة التي ذكرها، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال. وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع: هل يقلب اللّه العمل جوهرًا قائمًا بنفسه أم الأعراض لا تنقلب جواهر؟ وكذلك قوله: (يؤتى بالموت في صورة كَبْشٍ أمْلَحَ) [أي بياضه أكثر من سواده]. والمقصود هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بمجيء القرآن في هذه الصورة أراد به الإخبار عن قراءة القارئ التي هي عمله, وذلك هو ثواب قارئ القرآن, ليس المراد به أن نفس كلامه الذي تكلم به, وهو قائم بنفسه يتصور صورة غمامتين. فلم يكن في هذا حجة للجهمية على ما ادعوه. ثم إن الإمام أحمد في المحنة عارضهم بقوله تعالى: فمنهم من قال: غلط حنبل، لم يقل أحمد هذا. وقالوا: حنبل له غلطات معروفة وهذا منها, وهذه طريقة أبي إسحاق بن شاقلا. /ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم. يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان ولم يكن ذلك دليلًا على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره, فكذلك قولوا: جاء ثواب القرآن, لا أنه نفسه هو الجائي, فإن التأويل هنا ألزم, فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن، وثوابه عمل له لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن. فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه ثم تأولتم ذلك بأمره فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى. وإذا قاله لهم على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقًا لهم عليه، وهو لا يحتاج إلى أن يلتزم هذا. فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة فيمجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة، وثوابها مخلوق. ولهذا قال أحمد, وغيره من السلف: إنه يجيء ثواب القرآن, والثواب إنما يقع على أعمال العباد لا على صفات الرب وأفعاله. وذهب طائفة ثالثة من أصحاب أحمد إلى أن أحمـد قـال هـذا: ذلـك الوقـت، وجعلوا هذا رواية عنه، ثم من يذهب منهم إلى التأويل ـ كابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما ـ يجعلون هذه عمدتهم؛ حتى يذكرها أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره، ولا يذكر من كلام أحمد والسلف ما يناقضها.
|